أنباء الجامعة

 

 

 

 

 

خطاب العلاَّمة البحّاثة ، النَّاقد المحدِّث المحقِّق

صاحب السَّماحة الشيخ محمد بن محمد عوَّامه / حفظه اللّه ورعاه

في جامع رشيد بالجامعة

 

نقله عن الشريط : محمد عاصم المؤي ، ومحمد قاسم الدهلوي                  

الطالبان بقسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة                       

وراجع الخطاب بعد النقل : الأستاذ محمد ساجد القاسمي أستاذ بالجامعة     

 

 

 

 

                                                                                                  

 

 

     الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسَّلام على سيّد الأنبياء والمــرسلين، وعلى آلـه وصحبه أجمعين، أما بعد:

     فيا أيها السَّادة! يا سادتي المشايخ الأجلاء الكرام النبلاء! و يا إخواني طلاب العلم الكرام الأوفياء! والله لقد ضَاقَ صدري وخنَاقي بما سمعته ورأيته من أدب وتكريم وإجلال فوق طاقتي جدًّا جدًّا. وما هو إلا فضلكم، وكرمكم، ونُبل أخلاقكم أضفى عليّ هذا الكلام، والثناء البالغ، الذي لا أستحق منه شيئًا. إنما هو كرم أخلاقكم، وحسن ظنكم.

     وسيّدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علّمنا إشارةً تربويَّةً أخلاقيّةً بالإشارة لا بالعبارة؛ وذلك في قوله الكريم المشهور «سيّد القوم خادمهم» فإن في هذا الحديث الشريف إشارةً إلى أن الرجل كلما ارتفع خلقاً ونبلاً، ازداد تواضعًا. فسماحة سيّدي، سليل العلم والعلماء، الشيخ أرشد المدني حفظه الله تعالى كلما ازداد فضلاً ونبلاً، ازداد تواضعًا. فلم يكتف أن يقدّمني غيره من أصحابه وأساتذة الجامعة، بل هو تفضّل بنفسه، فقدّمني إليكم. فجزاه الله خير الجزاء. وأسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنّه.

     وسيّدنا موسى عليه الصلاة والسلام أفادنا القرآن الكريم من سيرته وقصته مع سيدنا الخضر عليه السلام أن الأمر كذلك. سيّدنا موسى عليه الصلاة والسلام كليم الله، النبي الرسول من أولي العزم، لما ارتفع قدره العظيم عليه الصلاة والسلام ظهر منه هذا التواضع العظيم، لما جاء إلى سيّدنا الخضر؛ ليطلب منه العلم والفائدة. قال له: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِيْ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْدًا. سيدنا موسى الكليم عليه الصلاة والسلام ما قال للخضر، «سأتبعك»، لا بل استأذنَ «هل اتبعك»، استعمل كلمة الاتباع فهو تابع، وخضر متبوع. فموسىٰ عليه السلاة والسلام لما أكرمه الله بما أكرمه به ازدادَ تواضعًا.

     وهكذا للإمام الفخر الرازي في تفسيره المشهور كلام طويل حول هذه الآية الكريمة، كلماتها دون العشرة، استنبط منها اثنى عشر أدبا من آداب طالب العلم، ينبغي قرأتها بتمعّن وتوسّع.

     إنني طويلب علم بينكم؛ ولكن غربتي أجلستني هذا المجلس، فيا أيها السَّادة! ساداتُنا ومشائخُنا ومشائخُكم أولى بهذا المجلس مني، ثم إن هذه الدّار الله يعلم أنني منذ خمسين سنةً أشتاق إلى التشرف برؤيتها ودخولها، والانغماس في هوائها؛ لما في نفسي من ثقة، وطمانينة وحبّ لها ولشيوخها السابقين واللاحقين، أسأل الله العظيم من فضله العظيم أن يمنّ عليها وعلى القائمين عليها، وعلى مثيلاتها من دور العلم الصحيح الصافي السليم المتصل سندًا كابرًا عن كابرٍ، أن يمنّ عليهم بالبقاء والدَّوام، وجزيل العطاء إلى يوم الدين.

     أمّا ما أريد أن أقوله: لوقلت لكم ما في نفسي ربما تقولون: الشيخ يبالغ شيئًا في الكلام، صدقاً يا شباب، ماذا أقول بكلماتي الضعيفة، صرت أنظر إلى كلماتي ضعيفةً هزيلةً أمام هذا الترحيب العظيم والثناء الكبير.

     يا شباب، ويا رجال العلم في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى أرجو من كل واحد بدءًا من نفسي ومنكم، ومن غيرنا من طلاب العلم أن يعرفوا حقَّ الله والعلم عليهم، علينا نحن الذين شرّفَنَا الله عزّ وجلّ فاختارنا للانتساب إلى شرف العلم، علينا أن نعرف   قدر هذا الشرف. وأيضا الحديث في هذه النقطة طويل جدّا، لكن أريد أن ألفت النظر إلى نقطة تتعلق به، إذا كنا ندرك، أن هذا العلم عزيز المنال، شريف المقام، رفيع الشأن عند الله عزَّ وجلَّ فعلينا أن نعطي هذا الشرف حقه من الإكرام والإعظام والإجلال، ولا نضع العلم بإهانته في نفوسنا.

     لا تنظر إلى نفسك أنك طالب علم، وأما غيرك من زملائك ممن درسوا معك مثلاً في الابتدائية من أبناء حيّك وحارتك، فلان صار طبيبًا، وفلان صار مهندسًا، وفلان صار رجلَ أعمال، وأنت رجل درويش العياذ بالله لا أبدًا. اِعرف نفسك؛ يا طالب العلم، أنك أعز مخلوق على وجه الأرض، لاحظ في نفسك هذا الشرف العظيم، كم وكم أنتم، لستم من أبناء ديوبند فقط، بل من شتى أنحاء كل الهند، لو نظرنا تقويماً سريعاً جدًّا جدًّا، كم وكم في شوارع الهند شبابًا ضائعين من أعماركم ما بين الخمس عشرة مثلاً، أمّا أنتم فاختاركم الله عزَّ وجلَّ لحوز هذه الأمانة، لشرف هذا العلم، لشرف «قال الله وقال رسوله» لشرف وراثة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا تنظروا إلى أنفسكم، بأنكم في مكان مهين أبدًا. أنتم أقدامكم يا طلاب العلم فوق هامات الرجال الآخرين، اعرفوا شرف العلم، وبناءً على ذلك حافظوا على هذه الكرامة، فشرّفوها وأعطوها قدرًا، ولا تضيعوا هذه الأمانة؛ فإن زلّة العالِم زلّة العالَم، أريد من نفسي ومنكم ومن أمثالنا ممن شرّفهم الله بطلب العلم، أن نلاحظ دائمًا أبدًا هذا المعنى في نفوسنا وفي حركاتنا وسكناتنا، في بيتنا، في شارعنا، في مدرستنا، وهكذا دائما نعطي الصورة الحيّة الصادقة العظيمة عن طالب العلم.

     الشيء الثاني: أريد أن أذكّر ببعض النقاط الرئيسية التي تساعد على تكوين طالب علم قويّ. النقطة الأولى: الترتيب في دراسة العلم وتحصيله، وهذا أمر حاصل في كلِّ معاهد العلم وفي كل الديار، وفي دياركم هذه - عمرها الله تعالى وفي غيرها، التدرج والترتيب في دراسة العلوم، ولكن أحبّ أن استخلص من هذا التدرّج خلاصةً كاملةً هي أن نلاحظ نحنُ الأساتذة، أن نلاحظ أن نربّي طلابَنا على أعيننا على ثلاث مراحل، أو على ثلاثة مستويات حسب ما تحتاجه الأمة، المستوى الأول: إنشاء طلاب علم يُتْقِنُون المرحلة الأولى في دراسته يُهَيَّؤون ويُعَدّون للمنابر والمحاريب، فلا ينبغي لنا أن نضيَّع هذا الجانب مما يتعلق بالإسلام والمسلمين، المسلمون بحاجة إلى مساجدهم، بحاجة إلى إمام يؤمهم في المحراب، وخطيب يخطب على منابرهم.

     المستوى الثاني: وهو أعلى من ذلك، نختار من رجال وطلاب المستوى الأول أُناسًا نمكنهم كما قلت تحت رعايتنا ونظرنا، وتدرّجنا معهم، نمكنهم في هذه العلوم؛ ليكونوا مرجعا للمسلمين في بلادهم للفتيا والمشورة.

     المستوى الثالث: مرحلة أعلى من هذه المرحلة يجب علينا أن نُعِدّ علماء عالَمِيِّين - إذا صح التعبير والتصوير أقول: المرحلة الأولى: طلاب علم محليين لمحلاتهم و لدُويرة أهلهم.

     المرحلة الثانية: علماء للبلدة. المرحلة الثالثة: أن نخرّج علماء عالميين يحرسون هذا الإسلام في أي منطقة في العالم. أنت في الهند إذا سمعت عن شبهة حول الإسلام في أقصى بلاد العالم غرباً أو شرقاً؛ فتصديت لردّها والدفاع عن الإسلام من هذه الثغرة. الشبهات حول الإسلام، وحول كل علوم الإسلام كثيرة جدًّا. وقبل أن نتابع الكلام حول هذه النقطة أذكر لكم أن إنسانًا يمكن أن أصفه بهيّان بن بيّان، وهم ياشباب، هيّان وبيّان يعني نكرة بالمجهول إنسانا كتب ثلاثة كتب: جناية البخاري على الحديث، وجناية الشافعي على الفقه، وجناية سيبويه على النحو، فكروا في هذا الأمر، ماذا ترك من حصون الإسلام إذا هدم الحديث والفقه؟ وأي شيء بقي من الإسلام؟ فعلينا يا شباب أرجع إلى أول الكلام علينا أن نعدّ طلاب علم علماء عالميين لحراسة الإسلام على هذا المستوى، وليس الأمر سهلا، وليست الحاجة إلى عدد قليل يعني اثنين في الهند، مثلاً على طولها وعرضها، واحد من مصر، و واحد من سوريا لا، لا، السّاحة بحاجة إلى مئات من هؤلاء المتخصصين حتى يوفى الأمر حقه. ولا نتواني؛ فعدوّنا يا شباب! المحاول لهدم الإسلام يهدم بجماعات وجماعات لا بأفراد، لو أردنا أن نتصدى لرد الهجمات على السنة فقط، لاحتجنا إلى سنين وسنين، ونؤهّل ونأهّل حتى نخرج بنتيجة عالم أو عالمين أو ثلاثة بعد عقد من الزمن يستطيعون أن يقفوا في وجه هذا التيار؛ ولكن بالمقابل عدونا أخرج آحادًا آحادًا.

     فنجد أنفسنا أننا في أول الطريق، والعدوّ قد خلّفنا وراءه. فالمهم يا شباب! علينا أن نعمل على هذه المستويات الثلاثة، نهيّأ ونعدّ أئمتنا وخطباء، وعلماء ومفتيين للبلد، وعلماء راسخين ثابتين كالجبال؛ لردّ هجمات العدوّ على الإسلام.

     والنبي صلى الله عليه وسلم حمّلنا المسؤولية العظمى بكاملها لكلّنا لا لنحن الذين في هذا المقام الآن لا، لكل أفراد الأمّة الإسلاميّة. النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حمّلنا المسؤولية العظمى فقال: «كل رجل من أمتي على ثغرة من ثغر الإسلام. الله الله لا يؤتى الإسلام من قبلك». سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشبِّه الإسلام العظيم بحصنٍ عظيم كبير جدًّا، له نوافذ كثيرة. أضرب مثلاً للتقريب هذا المكان المبارك فتحاته ونوافذه كثيرة. وأوقف المسؤول الأول في هذه الدار طالباً طالباً على كل نافذة؛ وقال له: احرس هذه النافذة؛ واحرس هذه النافذة، ثم يناشدك هذا المسؤول يقول لك: أسألك بالله، أناشدك الله كن حارساً يقظاً، أميناً، واعياً لاتغفُل عن حراسة هذا الحصن من هذه النافذة؛ لأن العدو إذا دخل من هذه النافذة، ولو كان صغيرًا، أفسد الحصن كله؛ فهذه المسؤوليّة يجب أن ندركها ونتحمّلها بأمانة وصدق. لا تقل «مالي». ولو قلت لكم: إن أوّل مِعولٍ يهدم الإسلام كلمة «مالي» لما كنت مبالغاً. وأحكي لكم قصة، وهي أنّ أحد سلاطين الدّولة العثمانية، تدارس مع بعض مسؤوليه حال الإسلام في مملكته. وكيف يتدهور؟ فاهتمّ للأمر، وقال: أوّل من أذاكره بهذا الأمر، هو شيخ الإسلام. فأرسل إليه ورقةَ خطاب يقول له: «أريد أن أذاكرك بشأن تدهور حال الدين» وصلت الورقة إلى شيخ الإسلام، فأخذها وكتب على ظهرها «مالي ولهذا الأمر» ووقّع تحتها، ورُدّت الورقة إلى السلطان، فاستشاط غيظاً.

     أمر بإحضار شيخ الإسلام فورًا فجاى وقال له: أنت المسؤول الأوّل، أنت شيخ الإسلام، وكيف قلت «ما لي ولهذا الأمر»؟ فقال له: «يا مولـٰنا! أنا ما تنصلت من المهمة، ما هربت من المسؤوليّة، ولكن وضعت أصبعك على الداء، الداء: أن يقول كل فرد من أفراد مملكتك: ما لي ولهذا الأمر، لوأن كل واحد تحمّل المسؤولية، وشعر بها ما وصلنا إلى ما وصلنا إليه».

     على كل حال يا شباب، لاحظوا هذه المهمّة والأمانة العظيمة، التي وضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عنق كل واحد منّا. أعود لما وصفت من النقاط، إن شاء الله تعالى تكون سببا في تقوية طالب العلم. منها أيضًا: البحث الدؤوب والاشتغال الدائم بهذا العلم دون فترة ولا انقطاع ولا برودة ولا خروج إلى شيء من الراحة. ينبغي إذا كان عندك عطلة أو إجازة دراسية غدًا أن تُهيِّئ قبل أن تصل إلى الغد كتاباً أو موضوعاً أو بحثاً تقرأه، أو تخطبه، أو تراجع شيخاً من الشيوخ، في هذا الأمر.

     أحد شيوخ بلدنا شيخ شيخي الأستاذ الشيخ راغب الطبّاخ كان له ولد وهو أكبر أولاده وهو القائم بأعماله العملية، وخاصة المطبع، كان عنده مطبع هو الذي يقوم بأعماله، توفي ولده، فتوقّع الطلاب أن الشيخ غدا لا يأتي إلى الدرس، لأنه منشغل بأمر ولده، ولكن الشيخ يأتي ويدخل الفصل أو الصف الدراسي قبل الطلبة، فاستغربوا وصاروا يتهامسون فيما بينهم. «الشيخ جاء، الشيخ جاء»، فقال الشيخ مالكم؟ قالوا: لاشيء، فقال: مالكم يا أبنائي؟ ما هي القصة؟ قالوا: والله يا سيدي! قلنا: إنك لن تأتي اليوم، ونستريح من درسك، فقال الشيخ (رحمه الله) بكل أسف في نفسه، وبكل غيرة على العلم، قال لهم يا بَنِيّ! خسرنا الولد، نخسر بركة العلم، خسارة على خسارة. هكذا كان الشيوخ في حرصهم على الفائدة. وأحد السادة المالكية الشريف التلمساني كان حاضرًا درس شيخه أبي زيد، وهو في بداية الطلب، وكان موضوع الشيخ ودرسه حول نعيم الجنة، فتكلّم، الجنة فيها كذا وكذا وكذا أو كما هو معروف: نعيم الجنة لا ينتهي وصفه، وإذا بهذا الشاب الطالب حدث السن المبتدئ في طلب العلم يقوم، ويسأل الشيخ يا سيّدي! هل في الجنة علم؟ فأجابه الشيخ جوابا عامًّا: فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين. فقال التلميذ للشيخ: لوقلت لي لا علم فيها، لقلت لك: لا رغبة فيها. لما دخل على العلم بهذا النهم، بهذا الشغف، بهذا التعلق العظيم، فتح الله عليه فتوحاً كبيرًا وعاجلاً، ما مضت عليه فترة يسيرة إلا وكان الشيخ أبوزيد نفسه يقرّر مسألة من مسائل العلم وما كان التقرير فيها على وجه الصواب، فقام التلميذ، وقال له: يا سيدي! الأمر كذا وكذا، وتقول: الأمر كذا وكذا، فانتبه الشيخ ورجع إلى الصواب، وشكره وداعبه بالبيتين المشهورين:

وأعلّمه الرماة كل يـوم

فلما استدّ ساعده رماني

وكم علمته نظم القوافي

فلما قال قافيــة هجاني

     ولو راجعتم ترجمة هذا العالم في طبقات السادة المالكية لرأيتموها ترجمة عالية جدّا. كما قال الإمام ابن عطاء الله الإسكندري رحمه الله في الحكم العطائية المشهورة يقول: «من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة» البدايات أنوار النهايات يا شباب.

     نقطة ثالثة: في مجال الكتابة والتأليف، وأرجو الله عز وجلّ، وهو المنعم المتفضل المنعم عليّ وعليكم، أن نخدم هذا العلم بكتابة نافعة، بتأليف نافع، بتحقيق نافع، إن شاء الله تكونون في المستقبل القريب هكذا، أريد منكم أن تلاحظوا أن الفائدة العلمية المحققة الموثقة، لا تأتي بسهولة، بل لابد من متابعة ومتابعة ومتابعة. وقد أقول من منطلق واقعيّ لامتشائم، قد تتابعون الأمر من كتاب إلى كتاب إلى عاشر كتاب. وتصلون إلى طريق مسدودة، فعليكم بالمتابعة أكثر، ولا تيأسوا. المهمّ: أن العلم لا يأتي بسهولة. أحكي لكم قصةَ قد يكون فيها شيء من الطول: أبو نصر موسى بن هارون بن جندل النحوي من تلامذة الإمام علي أبي القالي، الإمام الكبير في اللغة في الأدب العربي القديم، صاحب كتاب الأمالي. هذا الرجل من تلامذته، وكان يحضر درسه، وكان يحبه أن يأتي مبكرًا، فبكّر يوماً، وحصل له ما يؤخره، ودخل وقد أخذه مطر شديد بلّلَ ثيابه من فرقه إلى قدمه، فدخل على جامع قرطبة محل الدّرس، عند أبي علي القالي بهذه الثياب، خجل من نفسه فسلاه أبو علي القالي وهوّن عليه الأمر، قال له: لا تحزن لا تحزن أنت أصابك هذا الماء، بثوب تغيره وتبدّله هذا أمر سهل، أمّا أنا فأصابني أمر مثل ما حصل لك أنت أردت أن لا تتأخر، وأنا كذلك كنت أحضر درس الإمام المقرئ المشهور أبي بكر بن مجاهد كنت أحضر درسه، ويوما من الأيام أردت أن أبكّروأروح من طريقٍ مختصر فيما استطعت، فوجدت منفذا ضيّقا جدًّا، فحصرت نفسي فيه، وأدخلت نفسي في هذا المكان الضيق حتى تمزّقت ثيابي، بل انكشف اللحم عن العظم، وأثرفيّ ندوبًا تبقى معي إلى القبر. وأنت ما حصل لك شيء، ماء بلّلَ ثيابك ثم أنشده أبو علي القالي أبياتٍ، يقول فيها:

دببت للمجد والساعون قد ركضوا

وألقــوا دونَــه الأزر

وكابدو المجد حتى ملَّ أكثرهم

وعانق المجد من أوفى ومن صبر

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر

     لا تحسب أنَّ العلم المحقق الصحيح كالتمر تأكله وتتلذذ بأكله. الصبر معروف يا شباب عند العطّاريين؛ لكن أريد أن ننتبه إلى كلمة «تلعق» عادةً تستعمل «لعق» في حق العسل ولا يكون تذوّقاً يسيرًا كما تذوق بطرف اصبعك. لا، لا هكذا لعقاً كبيرا بالإصبع، فلن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر، حتى تعيش في مرارة الصبر طويلاً، حتى تصل إلى ما تريد، وهكذا أريد هذه النقطة، أن نغرسها في نفوسنا، ونحن الآن في مرحلة الطلب والكتابة إن شاء الله تعالى.

     يا شباب! أضرب على ذلك مثلاً واحدًا، لو جئنا إلى نسب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيدنا محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب، فالجد الأوّل له عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف،  وهاشم هو الجد الثاني له، وعبد مناف هو الجد الثالث، بن قصيّ، والقصي هو الجد الرابع، لو سألتُكم من هو الرجل الذي في سلسلة النسب الشريف لقبه «قريش»، من هو قريش؟ تقولون: فهر هو الملقب «قريش»، سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرشيّ ينتهي نسبه إلى فهر، فكل من يلتقي بنسبه مع نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فهر فهو قرشي، لو فرضنا فهر هو الجد العاشر، لو فرضنا: التقى رجلٌ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بجده السابع، أو الثامن، أو التاسع، أو العاشر، فهو قرشي، هناك يا شباب! من يقول: الملقب بـ«قريش» لا «فهر» إنما هو «قصي» يعني الجد الرابع، محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، الجد الرابع، فمعنى ذلك أن من يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في نسبه الشريف بالجد الخامس ليس قُرَشيا؛ لأنه من لا يلتقي بقريش الذي هو «قُصَيّ»، ومن يلتقى معه في الجد السادس ليس قرشيا، وهكذا وهكذا. ربما واحد يأتي ويقول: أخي فهر هو قريش ولد كعب أو قصي فهذا أمر مضى ما قضى؛ فلماذا الوقوف عند هذا وقوفًا طويلاً، أقول لك في الجواب: هذا أمر خطير، لكن نحن ما ندرك أهميته، لو راجعنا كتب العلم لدَلَّتْنَا على أهميّته جدًّا جدًّا، ما هو وجه الأهمية؟ الذي يقول إن «قصيًّا» الجد الرابع هو قريش، يريد من وراء ذلك أمرًا خطيرًا؛ لأن أبابكر وعمر رضي الله عنهما يلتقيان مع النبي صلى الله عليه وسلم في نسبه الشريف في الجد السابع لا بالجد الرابع، فمعنى ذلك أن أبابكر وعمر ليسا بقرشيين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الأئمة من قريش، فنظرًا إلى ذلك أنّ أبا بكر وعمر ما صح إمامتهم، لاحظوا يا شباب أين يكون الأمر وأين يكون الخطأ؟ إذًا لايجوز لنا أن نقول هناك في العلم أمور بسيطة سهلة. لا، علينا أن نتقن كل جزئية، ولو اتسع الوقت لأتيتكم بأمثلة أخرى.

     من مقوِّمات طالب العلم الأساسية في حياته العلمية، أن يهتمّ بكل أمر، وأن يعطي حقه من البحث والتمحيص، وأيضًا أن يبحث ويتبحَّر في البحث، ولا يتوانى ولا يفتر، وأن يدرك أهميته، وموقعه في هذا الدين والإسلام، وبين المسلمين وعامتهم، وأسأل الله العظيم من فضله العظيم أن يمنّ عليّ وعليكم، وعلى مشائخنا وسادتنا وأهل الحقوق علينا، وعلى أهل العلم عامّةً، والطلاب وعلى المسلمين أن يمنّ علينا وعليهم بكل خير وتوفيق لما يحبّه ويرضاه، وأسأل الله العظيم. أكرّر دعائي لكم ولهذه الديار دائما وأبدًا، ما أدعو أنا الآن أمامكم، لا، أنا أدعو بهذا الدعاء صبيحة كل يوم، والحمد لله رب العالمين، وأسأل الله العظيم من فضله العظيم، أن يحفظ العلم وأهله في بيوته من العلماء العاملين، لا من كل من انتسب إلى هذا العلم، فالدخيل أصبح كثيرا في زماننا يا شباب! أسأل الله العظيم أن يمنّ علينا بالعلم الصحيح الصافي السليم النافع لنا وللمسلمين متصلا بكابر عن كابر من علمائنا رضي الله عنهم وصلى الله وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

*  *  *

انطباعات العلامة محمد عوامه عن الجامعة في سجل الانطباعات

بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمد لله المنعم المتفضل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وإمام العلماء العاملين وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. وبعد:

     فإن لساني وقلمي عاجزان عن شكر ربيّ عزّ وجلّ الذي حقّق لي هذا الأمنية، وبلّغني الوصولَ إلى هذه الدار، أزهر الهند، الحصنِ الحصينِ، والقلعة الشامخة، من حصون العلم وقلاع الإسلام: دارالعلوم ديوبند، ولقد ظهر في تأريخ الإسلام وعبر القرون السابقة حصونٌ وحصونٌ ولاشك في خيرها وعطائها، لأمة الإسلام الكثير والكثير، ولكنا لانعلم في التاريخ المتأخّر منارةً كهذه المنارة في عطائها العلمي والعملي، الذي يفوق الحصرَ والعدَّ، إذا ما قيس بعُمُرها الزمني، فإن مما يعلمه كل طالب علم سمع بهذه الدار العامرة: أنها أمٌّ لأكثر من مئة ألف ابن وحفيد، في طول البلاد الهندية وعرضها، وباكستان وبنغلاديش وجنوبي أفريقية، حتى بلاد غير المسلمين، كل ذلك في الجبال والوِهاد والأودية، فضلاً عن الحواضر والمدن.

     أسأل الله تعالى أن يمنّ عليها وعلى مثيلاتها من دورالعلم في هذه البلاد وغيرها من بلاد الإسلام بالحفظ والدوام، والاستمرار والاستقرار، على المنهج القويم السليم، إلى يوم الدين.

     ولقيت في أساتذتها جيلاً صاعدًا، مما يبشر بأن الأساتذة الكبار قد سلّموا السفينة إلى جيل جديد، تخرّج على أيديهم، وسلّموهم الأمانةَ، ودعوتُ الله لهم أن يعينهم على القيام بها حق القيام.

     كما لقيت من هؤلاء السادة الأجلاء، ومن أبنائهم الفضلاء، حفاوةً ما بعدها حفاوة، مما يدل على ترسيخهم في نفوس طلاّبهم حبَّ كلَّ منتسب للعلم الشريف، فجزاهم الله خيرًا.

     وأخصّ بالذكر صدرها وعميدها العالم العلَم سليل العلم والعمل والدعوة والجهاد السيد الشريف الشيخ محمد أرشد مدني نجل شيخ الإسلام الحجة الشيخ حسين أحمد مدني، حفظه الله تعالى وأيّده، وبلّغه سؤلَه ومأمولَه، ولقد رأيت فيه شخصية العالم المتكاملة: رفقًا ولينًا، وأدبًا وتواضعًا، في عزة وإباء وشمم. أكثر الله  أمثاله في أهل العلم.

     وأقر الله أعين الآباء بالأبناء والأحفاد، يرونهم علماء عاملين، ودعاة صادقين مخلصين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .                 وكتبه

           محمد محمد عوامة                         

الاثنين:   10/3/1432هـ =  14/ فبراير 2011م                   

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادي الثانية 1432هـ = مايو 2011م ، العدد : 6 ، السنة : 35